"حواء وأنا" .. حضور الذات ، وغياب العالم "

"حواء وأنا" .. حضور الذات ، وغياب العالم "

إبراهيم محمد حمزة

جرأة يحسد عليها أى شاعر ، أن يكتب ذاته فى ديوان كامل ، أن يحمل نايا وسط هدير المدافع وضجيج الكون ، أن يهدى زهرة وسط ركام الدمار والخراب ، جرأة "رمنسة" الزمن ، رغم عويل كل شىء فيه .

وديوان " حواء وأنا " للشاعر حسن حجازى نموذج شديد الصراحة فى الانحياز لعالم متخيل ، ورغم سيطرة اللون العاطفى بصيغه الرومانسية العذبة ، فقد امتلك الشاعر أدوات تشكيل خاصة به ، ليظل الأسلوب – منذ بيفون إلى الأبد – هو الرجل .

- فى مديح البساطة :

كثيرا ما يرجع تقييم النص الشعرى إلى ثقافة وذوق متلقيه ، ولا لا عجب من رفض المتلقين لشعراء كبار أو الاحتفاء بآخرين ، ولكن هناك شعور عام أن البساطة تمثل تسطيحا لشاعرية النص ، وهى التهمة التى ربما أفسدت الشعر العربى فى بعض العصور ، وديوان "حواء وأنا " فى ظاهره ديوان لا يخفى منذ ذاته شيئا ، ولا يتحجب فى مواجهة القارىء ، ديوان يعترف ببساطة آسرة بانحيازه لقارئه :

اعترفُ بأني أحبك ِ حبا ً /ليس كحبِ البشر/ حباً طهرني عَلمني

أحبَ الناسَ / و أحبَ القدرْ /حباً يدخلني أعماقَ الطهرِ/ يُرجعني لأيام السمرْ

أعترفُ بأنكِ لستِ الأولى"

لكن هذا الظاهر البسيط يخفى وراءه عمقا مضمونيا ، يتوسل بلغة غاية فى اليسر ، وأحيانا العادية فيقدم الشاعر نصه بتقريرية، لكنها تخفى بناء متماسكا ، من خلال لغة بسيطة لا تزدحم بتشكيل بلاغى ، بقدر ما تتوهج بموسيقاها ، وتقترب من قارئها بصدقها ، وكأن الشاعر يستعير لغة الناس ، وكأن الشعر هنا بتعبير "كليف بيل " أحد علماء علم الجمال - الشعر خامة موجودة فى نفوس الكل ، ولكن التعبير عنها والتعبير فقط هو الذى سيخلق الشعراء " .

وسعيا وراء البساطة يتناص الشاعر مع قصائد متفردة شهيرة فى العصر الحديث ، يقول :

ثوبُ الزفافِ أبيض/ لونُ الكفنِ أبيض/ أهناكَ فرقٌ بينَ أبيضٍ وأبيض ؟/ الناسُ في بلدتي ما زالوا / يزورونَ القبور/ ويحرقونَ البخور/ ما زالوا يتبركونَ بالأولياء/ يؤمنونَ بالأسياد/ ويوَفونَ النذور !)

النص يحيل بلا شك على " خبز وقمر وحشيش " وعلى " الناس فى بلادى " وعلى " أوراق الغرفة8 " ... هذه الأصوات التى تتناص معها القصيدة عَرَضا أو قصدا ، يؤكد سعى الشاعر للقصيدة العامة ، التى تتخذ موقفا ومبدأً وتتعامل بلا عُقد مع المنجز الشعرى الأكثر شهرة ، تجاوباً مع شاعرية راسخة ،

لذا – وسعيا وراء هذه البساطة ، يتناص الشاعرأيضا مع نصوص صوتية ، أى مسموعة فضلا عن كونها مقرؤة ، كقوله (فضحكت عيونهُ لمَا/ مستْ يدى منهُ اليدا/ يا لعهدٍ كمْ حفظناهُ/ على طولِ المدى/ لغرامٍ واشتياقٍ/ فى حديث ٍ ولِقًّا/ يملأ ُ العمرَ نقاء/ وهدى/ يا حبيبا ً قد وَفَى / فى زمانٍ / كم نسى معنى الوفا )

بهذه اللغة المستسلمة لعصر التألق والتأنق الرومانتيكى للقصيدة ، يستبدل الشاعر صدقه بتدفق الخيال ، متناصا مع قصائد كالأطلال " مثلا ، مؤكدا على انحيازه للبساطة أو ما أسمته العرب بـ " دنو المأخذ " هذا التعبير العميق الذى صكه ابن المعتز فى " البديع " وجعله قرين الألفاظ التى هى فى عذوبة الماء الزلال والمعانى التى هى أرق من السحر الحلال "

ما دليل الشاعرية إذن ؟ دليل الشاعرية يكمن فى السهل الممتنع الذى ينسج الشاعر به شعره ، محملا شعره نفسا أسيانا حزينا ملتاعا

(لن ترهبني النهاية/ إنى لا أخاف القيامة/ لأني والموتُ سواء !/ قيامتي كانت بالأمس ِ/ عندما مات فى القلب ِ نبضي/ فحفرتُ بيدي رمسي/ ودفنت ُ فيهِ نفسي)

هنا شاعرية دالة على ما يسمى بالسهل الممتنع والذى عرّفه ابن المعتز بأنه

( أطبع ما يكون الشعر )

ورغم ذلك فقد حمّل الشاعر قصيدته تلك - وقفة فى محكمةِ الصمت – موقفه من الحياة والكون ، فى إحساس وجودى عميق ، يصل بالحياة فى تصوره إلى عدمية مخيفة ، ومن هنا استطاع الشاعر أن يستخدم إطارا غير معقد لمعنى شديد العمق .

ـ الشاعر وقضاياه :

الهم الأساسى للديوان هو الهم العاطفى ، ربما حاول الشاعر موازنة العاطفة بغيرها من القضايا فيما اضافه من قصائد جديدة مثل " وتتعامد الشمس " و" ابتهال " ، "درويش " و" ألسنا بشر " ولا تراهن " وهى قصائد مكتوبة حديثا ، ورغم لك فالقضية العاطفية لها حضورها ، وذلك بالمعنى الأشمل للمضمون باعتبار أن الفن – كما يقول كروتشيه – ليس تعبيرا عن الحياة ، بل إضافة وتنمية لهذه الحياة " ولذا تسعى القصيدة لدى حسن حجازى ، للتعبير عن كافة همومه كمثقف عربى ، تنتابه مشاعر تنتاب الناس جميعا ، لكنها تتحول فى يد الشاعر إلى حالة من الوهج ، مثلما رأيناه يصل لحالة من الصوفية فى " ابتهال "

" فشعبنا ضعيفٌ/لا يريد سوى/لقمةَ العيشِ/الحلال ،/فاحفظنا من نفوسنا/

ومن مكائدِ الإنسان!"

هذه القدرة على النفاذ للشعر من خلال اللغة المعتادة ، لغة الحياة اليومية ، والتى كان لصلاح عبد الصور فضل إشاعتها فى قصائده ، تؤكد سعى الشاعر لأن يكون صوت من لا صوت له .

هناك من القصائد ما يشذ عن الديوان مثل " ألسنا بشر " والتى جاءت مصنوعة استجابة لظروف ما ، أو لحدث سياسى ، تكمن فيها مزالق الشعر السياسى بشكل عام ، وأهمها : السطحية ، وارتباط الحدث بالوقت ، مما يعرضه لزوال تأثيره بزوال المؤثر .

يبدو "حسن حجازى " شاعريا فى كافة حالاته وإحالاته ، ويبدو دائما قادرا على ممارسة الحياة كشاعر ، وهو فرض صار شديد الرومانتيكية فى لهيب هذا العصر .

إبراهيم محمد حمزة

24نوفمبر 2009م